مزمل الباقر
الحوار المتمدن-العدد: 4407 - 2014 / 3 / 28 - 11:26
المحور: المجتمع المدني
" ولكنك ترى ..
كل ما يحدث في شارع حيك العشوائي أو بتسمية أكثر لباقة "معسكر النازحين"
ترى الأطفال عراة وحفاة وهم يتمرغون في القذارة
يقضون وقفتهم في اللعب ومطاردة الكلاب في فوضى
الأمهات والآباء يتجهون حثيثاً نحو الموت
والسجون والجنون ..
ترصد هذه الحلقات كل يوم من موقعك هذا
حلقات كثيرة من الناس
أكثر من بقية الحلقات
رقص لأن أحدهم تزوج
رقص لأن أحدهم تمت ترقيته
ورقص لأن إحداهما انجبت طفلاً
ورقص لأن أحدهم مات ".
من هي استيلا؟:
ولدت استيلا قايتانو بمدينة الخرطوم بحري، المدينة الثالثة في السودان وهي العاصمة الصناعية والتي تشكل مع امدرمان ( العاصمة الوطنية) والخرطوم ( العاصمة الإدارية) تشكل هذه المدن الثلاث ما يسمى بالعاصمة القومية (الخرطوم) وهي العاصمة الثانية لجمهورية السودان منذ الاستعمار الثنائي وحتى الآن، بعد ان كانت مدينة واد مدني العاصمة الأولى للسودان إبان الحكم التركي.
تخرجت استيلا من جامعة الخرطوم كلية الصيدلة وفي عمر مبكر ظهرت مواهبها الكتابية – إن جاز التعبير – فأسهمت في مجال القصة كما اسهمت فيما بعد في مجال تخصصها العلمي، متزوجة من السيد/ عادل عطية ولها طفلين: عمر وعاصم.
تركت استيلا مع زوجها الخرطوم مجبرة لينتقلا للعيش بمدينة (جوبا) عاصمة جمهورية جنوب السودان بعد أن جرى الانفصال السياسي بتاريخ 9 يوليو 2011م وعلى اثره انقسم السودان لدولتين ولكن ظل قلبها معلق بالسودان الأم فتأتيه بين الفينة والأخرى حاملةً جوازاً اجنبياً وقلباً لا زال يحلم بالوحدة من جديد وبخارطه وطن يعود تاريخه لليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر للعام 1955م حيث تم إعلان استقلاله من تحت قبة البرلمان بشارع الجمهورية بمدينة الخرطوم.
زهور ذابلة:
صدرت المجموعة القصصية (زهور ذابلة) عن دار عزة للنشر والتوزيع بشارع الجامعة بمدينة الخرطوم وذلك في العام 2004م. وتحوي ثمانية قصص قصيرة أولها ( نحو الموت والسجون) والتي كتبتها في العام 2002م وأخذت بعض فقراتها لتكون على الغلاف الخلفي للكتاب. وآخرها ( بحيرة بحجم ثمرة الباباي ) التي نشرت قبل عقدٍ ونيف بجريدة ( الرأي الآخر ) قبل ان توقفها.
لوحة الغلاف الأمامي بريشة الفنان عصام عبد الحفيظ ، بينما انفردت ريشة الفنان حسان علي أحمد بالرسومات الداخلية للكتاب.
نحو الموت والسجون:
هو العنوان الثاني للقصة الأولى بالمجموعة القصصية ويحمل عنوان ( كل شئ هنا يغلي ) تبدأ القصة بأربعة أسطر ربما تلخص عالم هذه القصة وبيئتها:
( المكان: حي شعبي أو بالأدق عشوائي
الموقع: بعيد عن العاصمة بعد الصالحين عن الجحيم
الزمن: زمن النزوح .. زمن الحرب .. الحرب الذي ضدك أو ضدك
السكان: غُبش
الرائحة: البراز و الخمر ).
يطلق أهل السودان مصطلح ( غُبش ) بضم حرفي الغين والباء على الكادحين من البشر، والفقرة الثانية في ذات الصفحة التاسعة تضيف تعريفاً آخر بالمكان ( الشوارع مثل ثعابين قصيرة تنتهي بطرق مسدودة دائماً، أهلها أدرى بشعابها، إذا كنت تتجول في هذه الشوارع لأول مرة، وأن تنساب بآلية في طريق طويل فيه كل مقومات الشارع قد تنتهي بك بغرفة نوم، أحدهم ).
أما بطل القصة فتخاطبه استيلا ( انت تعيش هنا بعد أن فقدت كل شئ هناك، وتحلم بالعودة قريباً لذا تفعل كل اشياءك بصورة مؤقتة، من أجل هذا فأنت تصارع كل يوم من أجل المأكل والمشرب. والملبس لا يهمك أمره كثيراً، حتى صُرعت أخيراً، صُرعت وأنت تعول أسرة، أنت الآن راقد وواع تماماً بعجزك، ترقد والسل يدب في أحشائك دبيب السوس في العود، تحولت كلماتك إلى سعال وصديد، وعظامك البارزة مواسير تنساب فيها الحمى، هناك أيضاً تقرحات على ظهرك من كثرة الاستلقاء، هذا بيني وبينك لأن لا أحد يعلم عنها شئ حتى الآن، لا شئ تفعله سوى النظر، النظر فيما حولك، صرت عيناً .. ترصد كل الأشياء حتى الأصوات، الآن أنت متكوم في غرفتك الخاصة .. الغرفة الوحيدة التي تخصك وتخص أفراد أسرتك: زوجتك وتؤاميك). ص 9
وتزداد جرعة الأسى بهذه الفقرة: ( يصلك كل ما في الشارع من أحداث لأنك تقريباً تسكن في الشارع، الآن يصلك صوت تبول أحد السكارى على جدار غرفتك، وتقيوء ذاك أمام بابك وتدحرج ذاك مقاوماً للدوار، ترى النسوة في نشاطهن اليومي ينقلن الخمور من مكان لآخر متنافسات على الخامة الجيدة ونظافة مجلس الزبائن فالشعار المرفوع هنا " بيتك للكل، لأن الكل في بيتك، لأن بيتك في الشارع والشارع من تراب" ). ص 10
أما الزوجة ولعلها البطلة الحقيقة للقصة فهي مثل الأخريات تمتهن بيع الخمر لتعول اسرتها النووية ( ... فزوجتك الآن تعمل بنشاط نمل، لا تعلم متى تنام فأنت ترصد استيقاظها ليلاً ونهاراً، ليلاً تسهر معك لتخفف عنك الألم والحمى، في ذات الوقت تصنع الخمر ). صفحتي 10، 11
أما نهاراً فهي ( تنساب بين الزبائن ملبية طلباتهم، وتوفر أدوات الشواء لهم، لقد أعتدت على هذه الفوضى حتى صارت جزء منك، كل هذا الضجيج يتم حول رأسك ). ص 11
ورغم أن زوجته تعمل ليلاً ونهاراً حتى تسير دفة الحياة، فإن زوجها يحار في ( ابتسامتها المفرطة رغم نزيفها الداخلي لأن السكارى سيظنون أن أخلاقها ضيقة فإنهم لا يحبذون ذوات الأخلاق الضيقة، ها هي قادمة نحوك نحيفة تتلاعب داخل ثوبها مثل ملعقة داخل كوب، تستطيع بكل يسر أن تتابع عروقها وتفرعاتها من المنبع إلى المصب والعكس، ترفع الوسادة التي تحت رأسك واضعة النقود تفعل هذا الشيء في كل دقيقة تقريباً تجري حساباتها وتضعها دون اعتبار لأي رأس ملقى هناك كأنك والوسادة شئ واحد، ولعلك تختلف قليلاً لأنك تسعل فالوسادات لا تسعل، عندما تفعل ذلك يكاد رأسك ينفجر من الألم يتبعها سعالك فتنتبه لوجودك وتسندك بيد وتمسك العلبة التي تحوي بعض التراب لتبصق فيها لعابك الصديدي المريض باليد الأخرى ). ص 11
وبينما كانت الزوجة تدفع بطفليها بعيداً عن مجتمع الزبائن حتى انها اضطرت لضربهم ضرباً مبرحاً ( عندما دلفا وتلقفهما السكارى وصاروا يتحدثون معهم، وكل واحد منهم يحس بمسؤلية تجاههما فيحشر اللحم في أفواههما ويدس بعض العملات في ايديهما لشراء الحلوى، كانت الأم ترمقهما بنظرة تأديبية حارقة حتى لا يأخذنا النقود ). ص 12
وزوجها يسمعها ( وهي تقول لجارتها بأنها ادخرت النقود الكافية لتأخذك غداً إلى المستشفى، لأنه إذا مت فإنها لن تغفر لنفسها أبداً، فتتكور أنت ألماً ). ص 12
لكن الأحداث دوماً لا تسير على ما يرام ( تعلم جيداً هذه الفوضى التي تسود المكان، السكارى هاربون، النسوة مهرولات يخبئن الخمور وأخريات يغلقن أبواب غرفهن في زعر فالفرار .. الفرار .. الفرار. وتصلك تلك الأصوات الطفولية هاتفه: الكشة .. الكشة .. الكشة. تماماً هي نفس النغمة عندما يهتفون: الإغاثة .. الإغاثة .. الإغاثة. هم كذلك لا يفرقون بين المصيبة والمصيبة ). صفحتي 12، 13
والكشة " يفتح حرف الكاف وتشديد حرف الشين " هو مصطلح يطلقه السودانيون على قوات الشرطة التي تداهم .. حسن لنصغي لتعريف الكاتبة استيلا لهم: ( .. يلي هذا الهتاف اقتحام تلك الكتاءب المسلحة لحفظ النظام ومحاربة الرذيلة والحرام وللترويض أيضاً، يتفرقون في كل البيوت ويسكبون السوائل على الأرض حتى الماء الذي تم الحصول عليه بعد شقاء مرير، ويدحرجون الببراميل على الأرض، يقبضون على ذلك وتلك، ويضربون آخر وفي أقل من القليل تمتلئ عرباتهم بالسكارى والنسوة والأواني وتتحرك إلى حيث أتت، ركض الأطفال خلف الشاحنات باكين منادين على أمهاتهم، أباءهم ويضيع بكائهم وسط شخير عربات البوليس، ويتلاشى صراخهم وسط الغبار والعادم، كان طفلاك معهم لأن زوجتك لم تنجو هذه المرة ). ص 13
بعد رحيل عربة الكشة، عاد الأطفال لللعب متناسين ما حدث، هنا عادوا لمطاردة الكلاب والتبرز في العراء والعلب الفارغة محافظين على طفولتهم التي في احضان اللامعقول ). ص 14
أما بيت الزوج فكان ( صورة مصغرة للحيّ كله، بذل الصغيران جهدهما لوضع الأمور في نصابها أنت متكور عبارة عن قطعة من الألم، تحس بتهتكات في صدرك، والحمى تسري في عظامك أكثر ما يؤلمك أنك تحولت إلى عين، عينك ستة على ستة تنظر فقط لا غير، ترى طفلتك التي تحسب بأنها في هذه الأثناء يجب أن تحل محل الأم فصارت حازمة، وزامة شفتيها فتبدو أكبر من سنينها القليلة بعشرات المرات، طفلك لا يفارق الضحك شفتيه فهو مصر على إظهار تلك الفراغات في لثته ). ص 14
وإذا بالضجيج يعود مرة أخرى ( ولكنه يختلف وصاح الأطفال: الإغاثة .. الإغاثة .. الإغاثة .. كل من في الحيّ يحمل صفيحاً وأكياساً فارغة وعلباً لتلقي الإغاثة، فعل طفلاك مثلما فعلوا، وأمتدت الصفوف، كباراً وصغاراً ونساء ورجالاً وكثرت الشجارات وبكاء الأطفال طمعاً في حفنة دقيق أو قطرة زيت، الشمس تشرق وتغيب على الرؤوس، يوم واحد لا يكفي، وتنظر أنت .. انت العين تنظر إلى تلك الجوالات وعلب الزيت وقد كتب فيها بالخط العريض باللون الأزرق U.S. A. علب الزيت. U.S. A. لبن البدرة. U.S. A. جوالات الدقيق. U.S. A. وتفوّه لعابك الصديدي .. ولكن ليس في العلبة هذه المرة، بل على وسادتك .. لأن الأطفال كانوا هناك في الصفوف الأخيرة ). ص 14
ثم إن الضجيج علا مرة ثالثة بعد أيام وهتف الأطفال: الكشة .. الكشة ، ولم تكن كذلك. فهتفوا: الأغاثة .. الأغاثة. ولم تكن بإغاثة ولكنها الجرارات التي علت في الأفق من على البعد. ( .. وانت .. العين .. كنت تعلم ولكن لا تستطيع الهتاف، اقتربت تلك المعاول التي تسير على أربع، أكثر، تم هدم كل تلك البيوت التي كانت قائمة على الشوارع الرئيسية كما قالوا ومناطق الخدمات ومجرى السيل، وبهذه الأسباب أصبحت البيوت الواقفة هنا وهناك مثل أسنان في فم عجوز، حتى عرفتك الوحيدة ذابت تحت وطأة الجرارات ). ص 15
وتزداد الحمى على الزوج والطبيعة من حوله ثائرةً جداً ( كانت هناك عاصفة ترابية تتجمع في الأفق ومن خلفها سحب داكنة تصنع كائنات عملاقة ولكنها سرعان ما تغير شكلها قبل أن تحدد ماهية الأشكال، ساد اضطراب فيما حولك، الكل يبحث عن ما يأويه من ثورة الطبيعة تلك، حيث لا مأوى، غطت الأمهات أطفالهن بالمشمعات والملاءات مع تجمع كل أفراد الأسرة في مكان واحد ليقي كل الآخر بجسده ). ص 15
تختتم القاصة استيلا قايتانو تلك المشاهد التراجيدية بأقصوصتها ( نحو الموت والسجون ) بفقرتين أخيرتين بالصفحة السادسة عشر من الكتاب. استميح القراء الاعزاء بأن انقلهما دون حذف أو إضافة من عندي:
( سعلت كثيراً اثناء العاصفة الترابية حتى كدت تفقد وعيك لولا تلك القطرات المائية التي لامست وجهك، حضر صغيراك وتلفتا يمني ويسرى .. انت من تهمهم في هذه الأثناء، بحثا عن مشمع لتغطيتك، أمسكت هي الطرفين الأماميين وأمسك هو بالطرفين الخلفيين، وصنعاً لك سقف ليقيك من المطر، انحدرت منك دمعة تغلي، وأنت تراهما تحت المطر، يصارعان الرياح التي أخذت تعصف بهما وأحياناً تنزع من أيديهما السقف ويهرولان لجلبة بسرعة قبل أن تبتل أنت، هو يضحك مظهراً فراغات لثته وهي زامة شفتيها لتبدو أكبر في انتظار شئ ما، ويعودان لك مرة أخرى، كنت تراهما من تحت المشمع وهما يحاولان جاهدين بألا تلمسك قطرة، التمعت تلك القطرات التي كانت عالقة بنهايات أذنيهما مثل البلور فلاح لك أمل هناك .. أمل بعيد .. بعيد جداً.
( توقفت الأمطار، هما الآن يخلعان أثوابهما الرطبة ويندسان تحت فراشك من البرد والرطوبة، كنت مصدر دفء لهما، عظامك الساخنة تغلي، وصدرك يغلي بالسعال، نام ذاك وهو يحلم بعودة الأم واللعب في ماء المطر واصطياد الأسماك الضالة التي انجرفت مع الماء من الترعة القريبة، وترى تلك وعيناها مثبتة في الأفق كأنها في انتظار شئ ما، أما انت فكنت تتسلل من الحياة شيئاً فشيئاً حتى لا ينتبها لغيابك ).
-أواصل بإذن الله -
القصة عند استيلا قايتانو .. - زهور ذابلة - نموذجاً ( 2 – 5 )
مزمل الباقر
الحوار المتمدن-العدد: 4412 - 2014 / 4 / 2 - 09:10
المحور: المجتمع المدني
في الحلقة الأولى من سلسلة هذه المقالات، دفعت بنبذة مقتضبة عن الكاتبة استيلا قايتانو. ومن ثم استعرضت قصتها الأولى بمجموعتها ( زهور ذابلة ). أواصل في الحلقة الثانية، الحديث عن قصص هذه المجموعة.
نحو الجنون:
يمثل هذا العنوان، الجزئية الثانية والأخيرة من ( كل شيء هنا يغلي )، حيث عنونت القصة الأولى بعنوان آخر وهو: ( نحو الموت والسجون )، لتصبح القصة الثانية: ( كل شئ هنا يغلي "2" : نحو الجنون ).
تبتدر استيلا قصتها بهذه الفقرة: ( ما زال صرير بوابة السجن الكبير يزن في اذنيها عندما لفظها السجن من جحيمه إلى حجيم المدينة، اختلط الصرير بشخير البص القديم الذي يئن تحت وطأة السنين والشوارع الخربة ). (ص 21)
إذن البطلة أخيراً خارج أسوار السجن الكبير أو ( حوش البقر ) كما تسميه القاصة على لسان الرواي. وطوال مسيرة البص، كانت ذكريات السجن تترى في مخيلة البطلة. قبل أن تنتشلها من يم ذكرياتها، فرقعة أصابع الكسماري يطلب ثمن التذكرة. ولأنها كانت لا تملك أي نقود بحوذتها، فقد أشار الكسماري لسائق البص بالتوقف قبل أن يأمرها بالترجل. مما حدا بها إلى ان تخبر كسماري البص الآخر بأنها لا تملك نقوداً فوافق أن يقلها وارتقت البص الآخر على اثر هذه الموافقة.
وصلت بطلة القصة للمحطة الأخيرة وركبت مع غيرها من المواطنين في إحدى ( الكاروهات ) التي تجرها الحمير بعد أن استأذنت الصبي الذي يقود ( الكارو ) فوافق فوراً على أن يقلها دون نقود.
بعد كل تلك الأشهر التي قضتها في السجن لاحظت الفرق فقد اختفت الشوارع الثعبانية. واختفت معها كذلك عدداً من البيوت لتصبح أماكنها خالية جرداء. وهنالك بئر ارتوازية حلت محل الطاحونة المائية. سألت عن السبب فأخبروها بأنه التخطيط.
فكرت في اسرتها وشرعت بالعدو كي تدركهم وصدق حدسها، فهنالك زريبة لتجار يبيعون البلح والحطب ولاخميرة مكان غرفتها!. ابصرتها احدى جارتها فهرولت إليها معانقة وباكية ومعزية في زوجها. ( دمدمت مثل السماء وبرقت عينيها، صرخت صراخاً لم الحي كله وايقظه من سكرته وغيابه، وبكت وولولت بكل اللغات التي تعرفها .. ناحت وأنت كل خلية فيها، طفرت دموع جرفت حزن العالم كله وغضب الدم وغبن القلب ). ( ص 24 )
ولم تتوقف بطلة القصة عن تعابيرها الحزينة وسط الجموع التي تحلقت حولها ( هي تقف في الوسط ترتجف من الفجية، بكت معها النسوة في حرقة، ثم أخذت تسب وتلعن .. سبت الشماليين، وسبت الجنوبيين، ثم كوّرت كفها وامسكت معصمها في حركة بذيئة، وسبت مؤخرة أم الحرب .. وسقطت مغشياً عليها ). ( ص 24 )
بعد أن افاقت من غيبوبتها، سألت عن قبر زوجها والتوأمين. ولأنها لم تجد أي إجابة من الجيران فقد شرعت في رحلة البحث الطويل عن تؤام وقبر حتى انتهى بها الأمر إلى أنها ( كانت تحرك شفتيها لأن منلوجها الداخلي بدأ يغلي ويخرج بخاراً .. كانت تسأل وتلعن وترحل من الأقاصي إلى الأقاصي ). ( ص 26 )
وكانت النتيجة الحتمية: ( ... وعندما خرج لها طفلاها ذات يوم من بركة التشرد، تصادفوا، انكمشا منها وهربت هي منهما، وكانت تعض على أصابعها ولعابها يسيل في غزارة دموعها .. هربت وهي تعرج فأصبحت مشيتها قردية وتغطيها بعض الخرق، ركض خلفها ولكنها هربت تبكي حيناً وتضحك حيناً، يئسا وعادا متدحرجين إلى بركتهما وغابا كما غابت هي في طريق البحث وضاعت، ولكن في غيابها كانت دوماً تلعن وترحل وتسأل عن قبر وبيت وطفلين يتيمين ). (ص 26 ).
وليمة ما قبل المطر:
تشير القصة إلى أن ( " أولير " اسمه يعني العراء، ذلك لأن أمه انجبته هناك عندما داهما المخاض وهي تحتطب، بلدته محاطة بالغابة والسماء ). ( ص 31 )
وتواصل استيلا قايتانو في قصتها الثالثة ( وليمة ما قبل المطر ) سردها الساحر: أولير ( كان يغط في نوم عميق عندما بدأ ذلك الظل يزحف بطيئاً نحو بلدته فبدأت مثل انسان ضحم يسحب غطاء نحو جسده ). ( ص 31 ) وكان الأجواء الخريفية تطل من سطور القصة فالشمس متوارية خلف الغيوم الداكنة والاشجار الضخمة تتمايل اغصانها بفعل رياح خفيفة ( تلوح لكرنفال الطبيعة المفاجئة .. بدأت النسوة نصف العاريات في التحرك مثل سرب النحل، يشرعن في نقل ما نشرنه من بافرا وذرة نابت إلى داخل الأكواخ، كن يتصايحن راطنات، تنبه كل الاخرى او تمازحها، واخريات مهرولات وعلى رؤوسهن قدور الماء والصغيرات. كان الماء ينحدر على صدورهن النابتة فيضفي لوناً اسود مصقول على بشرتهن). ( ص 31 ).
أما الرجال فقد كانوا جلوساً ( تحت سقيفة ضخمة تجاور ساحة الرقص، يتوسطهم مدفاة من الأخشاب الجافة لاشعالها عند هطول الامطار في صخب من الضحك والغناء، غناء اطلقته اخواتهم أو حبيباتهم، واصفاتهم بالشجاعة والقوة ويتخلل الأغنية بعض الغزل، كان المقصود بالوصف يهب واقفاً ضارباً أرجله بالأرض ملوحاً برمحه في الفضاء كأنه يقاتل عدواً لا يراه أحد سواه ). ( ص 31 ).
وماذا عن الاطفال ( عالم آخر طفولي، تشده شجرة " عرديب " ضخمة مغرية أياه بالثمار الرطبة التي تساقطت بفعل الرياح، بعضهم كان باسطاً ذراعيه مثل طائر منشدين أغنية المطر: " ماترا تالي .. سكي سكي ما تجي .. ماترا تالي .. سكي سكي ما تجي" أيتها الغيوم صُبيّ .. إذا كنت رزازاً فلا تأتي .. فلا تأتي ). ( ص 31 )
في هذا الأجواء ( ركض صديقا " أولير " طفلين في السادسة من العمر، يشدك ذاك البريق الذي في عينيهما شداً، اتجها نحو خالتهما لتوقظه لهم حتى لا تفوته وليمة ما قبل المطر، رفضت في حنو قائلة: " ليس من اللائق إيقاظ النائم، لانه بحاجة إلى ذلك وإلا لم ينم!" اظهر بعض الرضا عائدين إلى الشجرة ). ( ص 32 ).
ثم إن المطر قد هطل غزيراً. وجعلت أم " أولير " تحمل بعض الأخشاب الجافة إلى الداخل للتدفئة. ( وذلك الكائن خلف السحب يصدر أصوات مكتومة مصاحبة لبرق قوي ). ( ص 32 )
وتواصل الطبيعة ما بدأته في تلك البقعة من الأرض في ذلك الزمان ( فجأةً انفجار هائل، ثم برق طويل يخطف البصر، كأن هناك من أمسك بتلابيب السماء ومزقها إلى شطرين، تلجمت القرية وهي تسمع إلى ذلك الطنين الذي ينزلق في دهاليز آذانهم، والكل على يقين بأن هذه الصاعقة قد وصلت الأرض لا محالة ). ( صفحتي 32 و33 )
في الصباح كانت المفاجأة المحزنة - أو البشعة إن شئت – فقد اصبحت القرية على ولوة النسوة اللاتي تتراقص اكواخهن بجوار شجرة العرديب الضخمة، عفواً كانت حتى البارحة ضخمة قبل أن تشطرها الصاعقة إلى نصفين ( صرخت إحداهن منبةً القوم على أن هناك طفلين تعرضا لضربة الصاعقة، تبعثر الجمع للبحث عن الجثتين لابد ان الصاعقة قد القتهما بعيداً عثروا عليهما، التفوا حولهما ينظرون في رعب إلى الشريط الاسود الذي يمتد من رأسيهما إلى ما بين فخذيهما، شريطاً يوضح ذلك الاحتراق المفاجئ كأنهما انشطرا وتم لحامهما مرة أخرى، ثم ثمار متفحمة التصقت على كفيهما الصغيرتين ). ( ص 33 ).
كانت الجثتان الصغيرتين تنتميا لصديقيّ " أولير " .. ( تفلت جدة أولير لعاباً داكناً بفعل التمباك على رأس حفيدها المحبوب قائلة: اشكر من جعلك تنام في هذا الوقت بالذات فقد انقذك النوم من موت محقق، ويعلم الله إذا مت لكنت لاحقة بك لا محالة لذا ستنام كلما بدأت الأمطار في الهطول مدى حياتك ). ( ص 34 ).
حاول الاهل والجيران اخفاء الأمر عن أولير ولكن الطفل رأى ما حدث لرفيقيه فأرتمى في حجر جدته باكياً ( مرتعد الأوصال وذاك الشريط الاسود يتقافز أمام عينه، هذا يعني الموت! موت صديقيه يعني انهما لن يلعبا معه لعبة الاستخباء، الموت يعني انهما لن يزجرا الطير من المزارع وهم يعلمون الببغاوات الشتائم المصاحبة لاسماء اصحاب مزارع الفاكهة البخلاء الذين لا يسمحون لهم بأكلها، ويغرقون في الضحك عندما يسمعون صاحب الاسم يتبادل الشتائم مع الببغاوات مرشقاً إياها بالحجارة ). (ص 34 )
أما " أولير " فبرغم موت جدته وبرغم انه صار شاباً قوياً ( يرقص بكل طاقته فينال بذلك اعجاب الفتيات اللاتي تتدافعن ليراقصهن. يجيد السباحة كأنه من سكان النهر، يتسلق الاشجار مثل قرد، الكل يستقبله باستحسان لسماحته مع الكل، كان عيبه الوحيد النوم عند هطول المطر ). ( ص 35 )
وسبب نوم " أولير " هي لعنة جدته التي دعت عليه بأن ينام كلما هطل المطر. ( أحياناً كان يأتي محمولاً على كتف أصدقائه عندما ينام في رحلة صيد أو أي مكان آخر. كانت امه تراقبه وتوصيه بأنه إذا احس بقرب المطر يجب ان يعود إلى البيت، ولكنه كثيراً ما يندمج مع اصدقائه ينسى حتى تداهمه الأمطار وسرعان ما ينام لتعود به الذاكرة اللعينة إلى عمر السادسة ). ( ص 35 )
ولكن قلب الأم لا يهنأ حتى ترتاح على مصير صغيرها ( أولير الشاب ) فالتجأت إلى عرافة بالجوار علها تذهب عن ابنها اللعنة. ولأن ( سمح الغنا في خشم سيده ) - على حد تعبير مقولتنا السودانية – أي ان الحديث لا يحلو إلا من فم صاحبه. فلتقرأ ما كتبت استيلا على لسان الراوي، واصفةً أجواء العرافة حينما التقت أولير وأمه ( كانت العرافة معطية ظهرها لهم وجسمها ملئ بالأحجية والتمائم، أحس " أولير " بالتقيؤ عندما اخترقت تلك الروائح الغريبة انفه، واضطرب عندما لمح ثعبان كبير يقبع في قرعة كبيرة، وقرعة أخرى ملئ بالدماء وطائر غريب يصدر أصواتاً آدمية، نطقت العرافة بإسمه كأنها تعرفه عن كثب وسألته بما يحس به أثناء هطول المطر حكى لها كل شئ، بعد ذلك اصدرت بعض الأصوات المخيفة والأبخرة تتصاعد نحو السقف المخروطي، اعطت الأوامر للطائر الغريب الذي طار خارجاً ثم عاد بعد قليل ليخبرها بأن الجدة هي التي لعنت حفيدها خوفاً عليه، طلبت العرافة معزة سوداء وبقرة حلوب، على أن يتم العلاج غداً صباحاً قبل شروق الشمس ). ( ص 36 )
اراد اصدقاء " أولير " الاحتفاء بدنو خلاص صديقهم من اللعنة، بعد ان سمعوا منه ما دار بينه وبين العرافة وكانوا في طريقهم إلى رحلة صيد حاملين ادواته. تاركين نسوة القرية منهمكات في صنع الطعام و( المريسة ) – والمريسة هو نوع من الخمور البلدية التي تصنع في السودان من الذرة النابت ولعلها تصنع في بعض دول الجوار كذلك – وكان الاجواء احتفالية في تلك القرية التي تحيطها الخضرة.
في الغابة أوغل الاصدقاء في سيرهم مرددين أغانٍ زنجية تتحدث عن القوة والشجاعة وفي هذه الاثناء تبلدت السماء بالسحب فارتبك " أولير " وأراد الرجوع فعلم اصدقاؤه السبب فنصحوه بمرافقتهم لأن طريق العودة للقرية طويل جداً واقنعوه بأن يظل بصحبته فإن هطلت الامطار ونام فسيحملوه في طريق العودة للقرية ( .. عموماً فهو آخر يوم لهذه اللعنة فدعنا نستمتع ونحن نرفعك على اكتافنا للمرة الأخيرة، فلن نحملك بعد اليوم ). ( ص 37 )
اثناء سيره في الغابة اعترضهم نهر سريع الجريان فسألهم " أولير " عن اجادتهم للسباحة فأنقسم الاصدقاء إلى فرقتين، فرقة قادرة على السباحة بامتياز وأخرى لا تجيد السباحة. فإنبرى " أولير " لإنقاذ كل من لا يجيد السباحة حتى يجتاز النهر ولما تمكن الجميع من العبور للضفة الأخرى عاد " أولير " مرة أخرى للنهر فلابد من ان يحضر الاقواس والرماح من ضفته الأخرى ولكن المطر بدأت قطراته تغازل جسد النهر و " أولير " يشق الماء بكل قوته. غير ان المطر اشتد هطوله واشتد الأمر على " أولير " .. ( بدأت اطرافه تسترخي وهو يصارع أقوى أثنين، مياه نهر هائج ولعنة الجدة). ( ص 37 )
وكانت النهاية الحتمية لبطلنا أولير ( .. عندما ابتلعته الأمواج والنهر مثل حيوان ضخم يتقلب في مرقده مبتلعاً كل شئ حتى جذوع الاشجار، و" أولير " في احضان الطبيعة يتحول إلى طفل في السادسة يتنهد في حجر جدته ذات الرائحة النفاذة وهو يراقب قملة تزحف متكاسلة ثم تندس بين طيات تنورتها، وذلك اللعاب الداكن يثقل فروة رأسه، فأس يهوي من السماء شاطراً شجرة إلى نصفين ثم نزيف دخاني وسائل أخضر، جثث تتدرج وقبر متشقق.
( تركوه هناك نائماً نومته الأبدية، غارقاً في لعنة جدته، والنهر يأخذه بعيداً عن انشودة المطر، بعيداً عن القرية المحاطة بالغابة والسماء، بعيداً عن البافرا وورق الموز). ( ص 38)
No comments:
Post a Comment