Sunday, January 22, 2017
صحفيات وقَّعن على دفاتر إصداراتهن الأدبية والسياسية - عيسي جديد
ستيلا قايتانو.. (إمرأة من نيل وأبنوس)
استيللا قايتانو من مواليد مدينة الخرطوم بحري، خريجة جامعة الخرطوم كلية الصيدلة، والأم لطفلين صحفية وإعلامية لمعت في كتابتها حيث إهتمت بالجانب الإجتماعي والسياسي في طرحها الإعلامي تميز قلها بالجرأة والوضوح واللغة الأدبية الرشيقة كتبت المقالات الصحفية في جريدة (أجراس الحرية) وجريدة (المصير) التي تصدر بجوبا.. بعد أن حدث الإنفصال مابين السودان وجنوب السودان مؤخرًا دشنت الصحفية والكاتبة إستيلا قايتانو مجموعتها القصصية الثانية بجوبا عاصمة دولة جنوب السودان بإسم (العودة) والشاهد أن كتاباتها مازالت تحكي عن مرارة الإنفصال وتأثير السياسي على الإجتماعي مستخدمة في ذلك لغتها السهلة والعميقة جدًا في السرد الواقعي متناولة فيها حكايات الناس وتفاصيل يومهم وكدهم وبحثهم عن الأمن والسلام الداخلي.. والكاتبة كتبت مجموعة قصصية واحدة موسومة بـ(زهور ذابلة).
القاصة السودانية إستيلا قايتانو روح معلقة بين وطنين
الخرطوم - برزت إستيلا قايتانو أو نجمة الصباح في الاحتفال
الأخير بجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي بالخرطوم من خلال مداخلتها التي
فتحت بها مسارب غامضة من حياتها عند الكثيرين، وكانت بمثابة الشهادة عن جزء
من تاريخها وعن القضايا التي أثارتها في جل قصصها.
ونعود
هنا للتعرف على هذه الكاتبة والقاصة الجنوبية التي تعتبر الوحيدة من أهل
الجنوب التي تكتب باللغة العربية وللحديث عن أهم القضايا التي حاولت
إبرازها في كتاباتها.
إستيلا هي بمثابة التجسيد الحقيقي
لذاك الصراع الذي عاشه الإنسان الجنوبي والشمالي في وقت واحد، في معاناته
من أزمة الانفصال وتبعاته. فهي المتعلقة بالسودان لم يكن لفكرها المبدع أن
يستوعب تقسيم الوطن إلى شطرين وما يعنيه ذلك لها من تقطيع لروحها المتعلقة
بالوحدة وبالوطن الموحد. وكانت جل مواقفها تعبر عن تشبث بالسودان الوطن
لأن حبها له لا يتجزأ.
كانت تقول دائما: “السودان وطن
حلمنا وعملنا بكل طاقاتنا ليسع الجميع، وانفصال السودان أو استقلال الجنوب
لن يغير هذا الحب، ولن يبدل ذاك الحلم، وسوف أستمر في ما أفعله، ليس من أجل
الوحدة أو الانفصال أو الاستقلال أو الكونفدرالية، لأن كل هذا لا يُشكِّل
غاية بالنسبة إليّ، وإنما الغاية كانت تحقيق حلم الوطن الذي يسع الجميع،
ولا يُذلُّ فيه أحد بسبب انتماءاته وخياراته وآرائه؛ بل حتى آلامه. كنتُ
مخدوعة بأن ذلك قد يكون ممكنا، ولكن..”.
وتضيف: “إن مجرد
التفكير في مآلات الواقع وحدث الانفصال يصيبها بالقلق والتشاؤم، بل إنها
حينما تفكر في مستقبلها الشخصي جدا فإنها ترى أن عليها أن تبحث عن مكان
لتعيش فيه إن أصبح هذا السودان دولتين”.
وتصرح أنها كانت
مستعدة للمشاركة في تزوير التصويت لصالح خيار الوحدة لو سارت الأمور
باتجاه آخر وتذكر أن ” دعاة الانفصال لا يعون حتى الآن خطورة الفكرة وقتامة
المستقبل”.
كل هذه المواقف لم تمنع إستيلا من أن تحزم
حقائبها بعد الانفصال وتحمل أطفالها الذين هم من أب شمالي لتعود للجنوب
تاركة زوجها وتاريخها وجزءا من ذاكرتها وأحلامها، لتجد نفسها تواجه صعوبات
أخرى لكنها صمدت في وجهها مما يدفعنا للعودة للتفاصيل من أجل الوقوف على
ميزات هذه الشخصية المعاندة.
ولدت إستيلا في الخرطوم،
ودرست كل مراحل تعليمها بالشمال وتربت بين أهله، لكنها في ذات الوقت كانت
دائما تعتد بأصولها اللاتوكية. كانت لصيقة بالمهمشين حيث ترعرعت في الحاج
يوسف، والحاج يوسف يشبه الكثير من البيئات التي تطوق العاصمة القومية، هي
أحياء احتضنت النازحين بسبب الحروب أو المتساقطين من ركب المدينة.
ودرست
الصيدلة بجامعة الخرطوم، حيث كونت صداقات كثيرة هناك، “أصدقاء كالأرض لا
يخذلونك أبدا”، كما تصفهم إستيلا. كما تعرفت على الكتاب والشعراء والنقاد
والسياسيين الذين لهم الفضل في ما وصلت إليه.
ورغم توهان
البعض عندما يريدون البحث عن تحديد مسقط رأسها بسبب قصر قامتها وفصاحة
القلم واللسان إلا أنهم كانوا يعرفونها بالكاتبة الجنوبية التي تكتب
بالعربية. عملت إستيلا صحفية بجريدة “أجراس الحرية”، التي كانت تصدر من
الخرطوم.
العودة للجنوب مثل لإستيلا حالة من الاغتراب غير العادي فهي لا تعرف جوبا ولا تتقن الحديث باللغة الإنكليزية
محنة الانتماء
العودة
للجنوب مثل لإستيلا حالة من الاغتراب غير العادي فهي لا تعرف جوبا ولا
تتقن الحديث باللغة الإنكليزية ولم تكن تتصور أنها ستعود مرغمة لجنوب
السودان حيث رأت فيها السلطة السياسية ما لا تراه في غيرها، مجرد مواطنة
أجنبية أو لاجئة من دولة الجنوب. فتم طردها من عملها بالصيدلية، كما وقعت
مصادرة جريدة أجراس الحرية التي تكتب بها عمودا ثابتا. وعين لها تاريخ
لتغادر وطنها الشمالي لتولي وجهها نحو وطنها الجديد. إحساس مؤلم شعرت به
إستيلا لا لشيء لأنها ستفقد الكثير من الأشياء تعلقت بها في الشمال وستجد
نفسها أمام وضعيات جديدة من حيث اللغة الجديدة وحياة اجتماعية من نوع آخر.
العربية لغة التواصل
كانت
إستيلا تعتقد أن اللغة العربية قد ميزتها لأنه من غير المألوف أن يكتب
كاتب ينتمي الى جنوب السودان باللغة العربية، أغلبهم يكتبون باللغة
الإنكليزية. وقد حاولت إستيلا أن تكتب باللغة التي تجيدها الأغلبية، حتى
يسهل التواصل بينها والآخرين.
فاللغة عندها هي روح النص،
هي التي تضيف الحياة إلى النصوص واللغة هي التي تميز وتشخص الإبداع وهي
التي تعطي الانطباع الأول، كما الإنسان بالضبط، فهناك أناس تحبهم من أول
وهلة أو العكس، أو هناك من تفرح به أو يبهرك أو يجبرك على احترامه.
النصوص
هي روح اللغة التي نكتب بها، وإستيلا تحب اللغة العربية وتعشق الكتابة
بها، لذلك فهي أداتها اللغوية التي تريد أن تعبئ بها قصصا وثقافة تخصها
بعيدة كل البعد عن العرب والعروبة.
نجمة الصباح كانت
تعتقد أنها لن تستطيع التعبير بلغة أخرى غير العربية، ولكن بعد استقلال
الجنوب وبعد أن أصبحت الإنكليزية هي اللغة الرسمية، شعرت إستيلا أنها لا
تعبر عن هويتها ولكنها متصالحة معها وتحب التعامل بها وتتخذها أداة للتواصل
والإبداع.
وتعتبرها قاربا تعبئ فيه ذاتها لتبحر إلى
عوالم أخرى وشعوب أخرى تحتفي بالجمال والتنوع ومن حقهم أن تصل إليهم النصوص
باللغة التي يعرفونها. وأصبح هناك تحد يواجه إستيلا.. فكيف تصل إلى الجميع
حتى قراء الإنكليزية، وهي الآن تعمل على محاولة تطوير نفسها لتكتب
باللغتين أو ترجمة أعمالها إلى اللغة الإنكليزية.
الألم الذي شعرت به إستيلا عندما حرمت من العيش في الشمال السوداني لم يفقدها سعادتها التي تمثلت في تلك الكتابات القصصية التي بثت فيها أفكارها ومشاعرها عن الوطن وعن قضايا المهمشين والمحرومين
قضايا متنوعة
تجربة إستيلا وحياتها وأفكارها المتعددة برزت بشكل واضح في كتاباتها
القصصية وبالشخصيات التي اختارتها بعناية فائقة والتي شحنتها بطاقة اللغة
لتحمّلها ما يختلج في صدرها من أحاسيس وما تؤمن به من قناعات.
فتحدثت
عن جدتها وبيتهم وأسرتها، ووضع النازحين على أطراف مدينة الخرطوم وساكني
بيوت الكرتون، وكتبت عن الحرب ووثّقت للفقر والعوز والخمور البلدية والسجون
في قصة “كل شيء هنا يغلي” بجزأيها فنحت نحو الموت والسجون ونحو الجنون،
كانت قريبة جدا من أجواء هذه القصص بل كانت جزءا منها وتشارك في بعض
تفاصيلها. فصورت ذاك الصدام الاجتماعي والثقافي بين الدولة ومجموعة من
مواطنيها الذين ليس لهم علاقة بالتوجهات الإيديولوجية للدولة، لذا كانت
صناعة الخمور بالنسبة إلى تلكم الأمهات مصدر رزق يسد الرمق ويوفر الكسوة
ويدخل عددا لا بأس به من الأطفال إلى المدارس رغم سوئها ولكنها ترضي
الأمهات.
أما من حيث نظرة الدولة فلم يكن هؤلاء
المواطنون إلا مجموعة من المنتهكين للحرمات الدينية لدين ليس لهم به أي
التزام روحي ولا يعرفون حتى شعائره، لذا حاربت الدولة صناعة الخمور بكل ما
أوتيت من قوة وللأسف من غير تقديم بدائل محسوسة لكسب العيش الكريم و الحلال
طبعا.
إستيلا اكتشفت متعة التحدث عن الخاص والمحلي جدا
في قصصها ليصبح دهشة للآخرين لذا تعلمت أن تكتب عن نفسها، عن أمها ،عن
أهلها وأرضها التي كانت بعيدة عنها لأن من حق الآخرين اكتشاف حيوات أخرى لا
يمكن تخيلها.
فكتبت ” وليمة ما قبل المطر” التي تنفتح
بالحديث عن أولير وهو بطل القصة والذي اسمه يعني العراء، هذا الاسم هو
اسم أصيل في القبيلة التي تنتمي إليها إستيلا قبيلة اللاتوكا من كبريات
القبائل التي تعبر عن حزنها بالبكاء والرقص في آن، بكاء الجسد والروح. تقول
إستيلا: “لم يدهشني زوربا عندما كان يرقص ألما برجل واحدة في رائعة ماركيز
ولكني اكتشفت بأن هذه التفاصيل تكتب، برفقة الدموع والأغنيات”.
وعن “أولير” تقول إستيلا كتبتها من الخيال البحت، استحضرت ذاكرتي
السماعية لتكثيف الصورة تحدثت عن أنهار وبروق، استعنت بالتعاويذ والخرافة
كمعتقدات أفريقية مازالت تمارس حتى الآن بإيمان وخشوع تامّين، زينتها
بالغابات والبافرا وأوراق الموز، ثم عطرتها بروائح الجدات، ومجرد أمنية
منهن قد تصيب الأبناء والاحفاد اللعنات التي لا يمكن التحرر منها بسبب
الخوف أو الغضب، فخوف الجدة على حفيدها في هذه القصة حتى لا تصيبه الصاعقة
كما أصابت أصدقاءه الذين كانوا يلعبون تحت شجرة العرديب الضخمة لأنه كان
نائما، جعلتها تلعن حفيدها كي ينام كلما أمطرت السماء. لذا كان أولير
ينام مع كل زخة للأمطار وأثناء ذلك تعود به الذاكرة إلى عمر السادسة إلى
يوم الحادث بالتحديد أثناء سباحته في نهر هائج وانهمار الأمطار وهو رجل
بالغ ولكنه يتحول في أحضان الطبيعة إلى طفل نائم في عمر السادسة. فيرى
احتراق الشجر بالصواعق.. يسمع عويل الأمهات ودوي الطبول يحس بلعاب جدته
الملعون على فروة رأسه ينتحب وهو يرى قملة كبيرة تنزوي في ثنايا تنورتها.
ما تريد إستيلا قوله من خلال هذه القصة هو أن الاعتقاد شيء يصعب التحرر
منه وذاك ينطبق على كل الأديان السماوية والأرضية وبسببه قد يحيا الفرد
ويعيش على أمل .. أو يموت ملعونا وطريدا من رحمة الإله.
الجدة الملهمة
أما
قصة “بحيرة بحجم ثمرة الباباوي” فقد عبرت إستيلا بها من مرحلة الكتابة
العادية التي تشبه كتابة الكثيرين إلى مرحلة كتابة الأنا الخاص والغريب عن
الآخر. كتبتها في نصف ساعة، كما تقول لم تراجعها ولم تغير فيها شيئا، نزلت
عليها كوحي أو كإلهام، كتبتها وهي ترتجف من الخوف والانفعال وكانت دواخلها
تصرخ أو تحتفل كلحظات الميلاد.
كانت خائفة من هذا النص
لأنه لم يكن لديها توقعات عن قبوله بكل تلك الجرأة والغرائبية التي فيها،
نص به امرأة لا تشبه النساء، بها خليط من الأمومة الأبدية والقسوة المتجذرة
لأسباب تعرفها نساء الريف والبيئات المفتوحة على المفاجآت السارة أو
القاتلة.
أناس يجيدون قراءة الطالع ويفهمون همس الشجر
والحيوان والألوان والتخاطب مع البيئة ويعرفون دلالتها، هي هكذا ديانات
وخرافات وأسطورة هي عمود فقري للثقافات الأفريقية.
كيف تستطيع إستيلا قول هذا في زمن سيطرت الحقيقة الواحدة على كل الحقائق الأخرى وربما ستتعرض للسخرية ! ذاك كان مصدر خوفها.
كتبتها بشغف وعندما انتهت ألقتها في حقيبتها الوحيدة كأنها تخفي جرما. قبل
أن تكتبها كانت تراقب جدتها الحقيقية وليست لها علاقة بجدتها التي في
القصة، حيث أن جدتها الحقيقية قصيرة القامة وصغيرة الجسم مثلها، تخاف المرض
والحرب والموت وعدم الإنجاب وقلة أدب الأبناء والحنين.
وهي التي كانت تقول حين تُؤنّبها الجارات على ضرب ابنتها قائلات: “لماذا
تضربينها وهي ابنتك الوحيدة؟ كانت ترد عليهم: وإذا لم أضربها هل ستنفلق إلى
عشر بنات؟”.
تلك هي جدتها الحقيقية والتي ابتلاها الله بموت المواليد فلم تبق غير أم إستيلا وأخوها.
كانت
إستيلا تراقب جدتها الصغيرة وهي تحطم بعض كتل طين الجدار الذي تداعى أثناء
خريف ما أرضا، لتحولها إلى تراب تعيد به بناء ذاك الجدار، كانت تجلس على
مقعد قصير وتغني أغنية لتمجيد مآثر زوجها وهي أغنية لنفسها وتنجز للأسرة،
نهضت إستيلا وتحركت في الفناء ورأت الأفق عبر ثقب أذن جدتها.
فلمعت
الفكرة في رأسها وذهبت ودونتها في نصف ساعة، فاستحضرت إستيلا جدة أخرى
رأتها من قبل وأبهرتها بطولها وقبحها ورائحتها النفاذة وغير مكترثة بمقاييس
الجمال التي تهم الآخرين ويعرفها الناس فتقول عن فطاسة أنفها “يكفي أنها
تتنفس به هكذا في فلسفة تقدير الوظائف والمهمات وآداء الواجبات أكثر من
الوجاهة والمظاهر. فالأنف الطويل والكبير والأفطس كلها تؤدي مهمة التنفس
ممّا يعني أن الحياة فيلم يركز الناس فيه على الجمال بشكله السطحي”.
برغم
الالم الذي شعرت به استيلا عندما حرمت من العيش في الشمال السوداني إلا ان
سعادتها تمثلت في تلك الكتابات القصصية التي بثت فيها أفكارها ومشاعرها عن
الوطن وعن قضايا المهمشين والمحرومين، فكانت بمثابة المرآة التي تعكس
واقعا لا تقدر الكتابة على تجميل القبح اللائط به.
http://www.alarabonline.org/?id=17801 .
أدب الغابة والصحراء السودان هوية مشروخة- رانيا مامون
هل كانت حركة الغابة والصحراء تستقرئ ما سيؤول إليه واقع السودان من قبل نحو خمسين عاماً، لذا أطلقت التسمية كوعاء حاوٍ لفكرها ودعوتها إلى التعدُّد الإثني والثقافي والديني واللغوي؟. من واقع الحال الآن، يمكن استكناه الإجابة: فحركة الغابة والصحراء ليست حركةً فكريةً إبداعيةً فقط بل رؤيوية أيضاً، وهي تستبطن بُعداً سياسياً عميقاً، وتقدِّم نموذجاً لثقافة دولة «هجينة». فقد تكوّنت في ستينيات القرن الماضي من قِبل مجموعة من الشعراء هم: النور عثمان أبكر، محمد المكي إبراهيم، محمد عبدالحي، ويوسف عيدابي. فهمت الحركة الحالة الوجودية للإنسان السوداني، وقالت إن الهوية السودانية هي مزيجٌ من العنصرين الإفريقي والعربي، وبالتالي فثقافتهما هي مزيج أيضاً من الثقافة العربية الإسلامية والإفريقية المسيحية والوثنية. وقد أفرز هذا المفهوم الكثير من الأعمال الإبداعية التي تتماشى معه وتمثله. فالغابة ترمز للزنوجة، أما الصحراء فترمز للعروبة. ويتميّز الإبداع السُّوداني بأنه نتاجٌ لهذا التنوّع ما خلق له ثراءً وغنىً. فهل أدّى هذا الثراء إلى وحدة سودانية اجتماعياً وسياسياً؟ أم كان مدخلاً وباعثاً على الاستعلاء والرفض، والتهميش والإقصاء ومن ثَمَّ قاد إلى الحروب والتشظي والانقسام؟
لا شكَّ في أن للاستعلاء العرقي والثقافي للشمال على الجنوب، دوراً أساسيّاً في الدفع بالجنوبيين إلى حمل السلاح، بعد المطالبة بالعدالة والمساواة،فــ «غياب المساواة والعدالة سيقود حتماً إلى الحروب وتصاعد المطالبة بحق تقرير المصير، وعلى كل أمة أو مجموعة عرقية تقوم باضطهاد المجموعات العرقية الأخرى وترفض أن تعيش معها على أساس المساواة والعدالة المكتسبة، من حقِّ المواطنة على أرض واحدة أن تستعد لمواجهة قضايا جادة، مثل حق تقرير المصير بنفس الجدية التي رفضت بها تلك المجموعات كمجموعات عرقية مساوية لها في الحقوق والواجبات(1)».
لم يأتِ حمل السلاح من قِبل الجنوبيين بين عشية وضحاها، بل سبقته كثير من الأحقاد، «اتفقت جميع السياسات الحكومية المركزية المتواترة على معاملة الجنوبيين كأمّة منفصلة ومتميزة عن الشمال. فلم تعمل هذه الحكومات على تحقيق سياسة وطنية تستوعب الجنوبيين في الحياة العامة في السودان،وتعمل على إزالة الفوارق التي تظلل تلك الحياة العامة، لذا ظل الجنوب في وضع أشبه بالغريب لا هو بالمنفصل ولا هو جزء من السودان(2)». لقد مورست ضد الجنوب سياسة تمييز عرقية وثقافية ودينية ولغوية، قادت في نهاية المطاف إلى الحرب الأهلية بين عامي (1955 - 1972)، ثم اندلعت مرة أخرى (1983 - 2005). ومن بعدها انفصل جنوب السودان عن شماله بموجب استفتاء على الانفصال تحت ظل الحكومة الحالية (1989)، التي حوَّلت الحرب من أجل رفع الظلم التاريخي والسياسي وتحقيق العدالة والمساواة الاجتماعية والتنموية، إلى حربٍ دينية جهاديةٍ بين مسلم ومسيحي، وبذلك ضمنت لها المباركة من قِبل الشعب وشبابه الذين ذهبوا للجهاد في الجنوب، الذي كان ضمن حدود السودان، أي ذهبوا للجهاد ضد جزء من الوطن وشعبه!! هذا بدلاً من تصحيح الأخطاء التاريخية التي ورثتها هذه الحكومة الشمولية عن الحكومات الوطنية السابقة كلها. وبالطبع لن أنفي دور الاستعمارين العثماني والإنجليزي في بذر بذرة الحرب، ليأتي الشماليون العرب لسقايتها حتى نَمتْ وتفرعتْ وأدَّت إلى انقسام الوطن الواحد!.
كانت تجارة الرقيق التي مارسها الشمال على الجنوب من أكبر روافد الحقد في قلوب الجنوبيين، وأبرز تجليات الاستعلاء العرقي للشماليين على الجنوبيين، فقد «لعبت تجارة الرقيق دوراً كبيراً في تقسيم وجدان هذا الشعب وفي تحديد نظرة كل مجموعة تجاه الأخرى. فمنذ بدايات العهد العثماني في السودان 1821 ظل الشماليون ينظرون إلى الجنوبيين على أنهم رقيق أو«عبيد» (3)». ورغم أننا نعيش الآن في القرن الواحد والعشرين، فإن أثر تلك التجارة مازال موجوداً: «لقد توقفت تجارة الرقيق ولكن ما تزال في الواقع تلقي بنفوذها وتشكِّل طرائقنا العرقية والإقليمية والعنصرية، إنها مرتبطة بذهن الجنوبي والشمالي منذ ذلك التاريخ(4)»، و«إن نصف قرن من الحكم الثنائي الإنجليزي المصري لم ينجح لسوء الحظ في إزالة الأثر الذي خلّفته تجارة الرقيق في الشماليين والجنوبيين على حد سواء، حيث ظل الأُول يعتقدون أنهم يولدون سادة، بينما أحاط الآخرون أنفسهم بسياج من الريب والظنون والذي برهنت الأيام أنه أُسس بإحكام(5)».
وهذه الندبة في الوجدان الجنوبي تطرَّق إليها فرانسيس دينق في روايته (طائر الشؤم)، من خلال سرده لبوادر الحرب الأهلية قبل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني مباشرة، حين شعر الجنوبيون أن الشماليين سيعودون إلى غزوهم مجدداً إثر انسحاب البريطانيين واستلامهم مقاليد تصريف البلاد، ما يحيل إلى أن الجنوبيين كانوا يستظلون بمظلة البريطانيين ويأمنون جانبهم أكثر من الشماليين، فثاروا وقتلوا الشماليين المتواجدين في الجنوب «وأشعل القتال روح العداء العرقي والثقافي وبدأ في فتح جروح قديمة وإنعاش الحروب القبلية بين العرب والدينكا»، «في تلك المصادمات عاودت القبائل العربية ممارستها القديمة في الغزو لأخذ الأبقار والرقيق(6)». وإن أقررنا بأن تجارة الرقيق بدأت في العهد العثماني، إلا أن استعانة الجيوش الغازية ببعض الشماليين تشير إلى استعداد فطري للمشاركة في تجارة الرقيق، التي مارسها في ما بعد الشماليون بشكل صريح ومنفرد وأشهرهم الزبير رحمة باشا وكان هناك تاجر مصري أسواني اسمه محمد أحمد العقاد(7).
لا بدّ، من أجل تتبع أثر الأسباب التي أدَّت إلى الحرب الأهلية في السودان، من الوقوف أيضاً عند سؤال كبير هو سؤال الهويَّة السودانيَّة. إذ إنَّ التباين والتعدُّد، كانا يمثلان أيقونة الأمل في إثراء الواقع الثقافي والاجتماعي، لكن إخفاقات السّاسة وقفت بقسوةٍ كحاجزٍ ضدّ المضي قدماً باتجاه التنوع. فقد كانت الرغبة مشتركةً في تحسُّس الجذور والبحث عن ثمار الإجابة عن سؤال الهوية، ففي وقتٍ واحد تقريباً بدأ النور عثمان أبكر (مواليد كسلا في شرق السودان) ومحمد المكي إبراهيم، (غرب السودان) وصلاح أحمد إبراهيم (الوسط)، ومصطفى سند (أمدرمان) ومحمد عبد الحي (الخرطوم) يكتبون شعراً تظهرُ فيه تلك الملامح المشتركة التي لا تخفي الاختلاف العميق.
شدَّد النَّور عثمان أبكر، على التغلغل الإفريقي ومضى في أكثر من اتجاه مؤكداً أنه: «حتى صوفية السودان لا تنبع من أوتار شرقية، ذلك لأنها عطاء رخيم للطبل والبوق»، إلا أنه لم ينفِ قبول العديد من المظاهر الإسلامية. ورغم ذلك جاءت أشعاره عامرة بالمناخ الإفريقي وطقوسه: في غرفات الغاب السِّرية/أوقدنا ألف سراج قربنا/للربِّ ضحايا النذر الأزلي/شربنا الخمر وغنين/ احجب عنَّا الريح السوداء8».
التفت الشاعر محمد عبد الحي من جهة أخرى، خاصةً في مطولته (العودة إلى سنار) - سنار ترمز إلى السلطنة الزرقاء (1504 - 1821)، ويطلق السودانيون على الأسود أزرق ربما لهذا سُميت الزرقاء وتعني السوداء- أيضاً إلى تحسُّس الجذور، وقد قدّم لقصيدته بمدخل لأحد المتصوفة (العرب) القدامى: «ما الذي أخرجك يا أبا يزيد عن بسطام؟/قال: طلب الحقّ./ إن الذي تطلبه قد تركته وراء ظهرك ببسطام./ فتنبه أبو يزيد ورجع إلى بسطام ففُتح له!/ فافتحوا، حُراس سنار افتحوا للعائِد الليلة أبواب المدينة/افتحوا للعائد أبواب المدينة/افتحوا الليلة أبواب المدينة/بدوي أنت؟/لا../ من بلاد الزنج/لا../أنا منكم، تائه عاد يغني بلسانٍ/ويصلي بلسان/أنا منكم جرحكم جرحي/وقوسي قوسكم/وثني مجَّد الأرض وصوفي ضرير/مجَّد الرؤيا ونيران الإله9».
أمّا الشاعر صلاح أحمد إبراهيم فقد وقف ضدّ حركة الغابة والصحراء في مقالٍ له بعنوان (نحن عرب العُرب- صحيفة الصحافة 1967/11/6)، وكانت الحرب سجالاً بينه وبين الشاعر النور عثمان أبكر. حتّى أن بعض أدباء السودان ذهب للتأكيد على أن لهجة السودانيين عربية صافية ومستمدة من نهر الفصحى مباشرة، بل أن الشاعر الطيب السراج صاغ شعراً يستعصي على الفهم: «لغة المحاجيج المراجيح الوحاويح/المصابيح السماه جدودا/أعني المزاربة الملاوتة الخلامجة/ الخضارمة الأباة الصيدا»، حتّى إن شاعراً كبيراً هو محمد المكي إبراهيم علّق قائلاَ: «الشاعر كان يستعرض ثروته اللغوية بإحساسٍ متهم». أمّا محمد المكي الذي كان متورطاً في البحث عن إجابة، فقال في قصيدته (بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنتِ): «الله يا خلاسية/ يا بعض عربية/وبعض زنجية/وبعض أقوالي أمام الله».
وقد برز هذا السؤال الملِّح بشكلٍ واضح في ستينيات القرن الماضي، ففي رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح (1929 - 2009): «سألت إيزابيلا سيمور مصطفى سعيد هل أنت إفريقي أم آسيوي؟ فأجابها أنا مثل عطيل، عربي إفريقي. فنظرتْ إلى وجهه وقالت: نعم، أنفك مثل أنوف العرب في الصور، ولكن شعرك ليس فاحماً مثل شعر العرب».يتفاوت الكُتَّاب في رؤاهم تجاه هذا السؤال، إذ بذل الفيتوري، خاصة في دواوينه الأولى، كل طاقته للتغني بإفريقيا بشكلٍ يشبه الطيب السراج في الضفة الأخرى: «قلها لا تجبن لا تجبن/ قلها في وجه البشرية/أنا زنجي/وأبي زنجي الجدّ/وأمي زنجية/أنا أسود/أسود لكن حرٌ أمتلك الحرية»10.
غير أن جمال محمد أحمد أخلص للكتابة لإفريقيا دونما ضوضاء، رغم أنه من سرة شرق في أقاصي الشمال، فكتب (وجدان إفريقيا)، وهو كتاب يبيِّن قدرة الدينين المسيحي/الإسلامي على التعايش. كما نقل بعض الحكايات والأحاجي الإفريقية (سالي فوحمر)، وكتب عن (مطالعات في الشؤون الإفريقية).
مرآة السرد
أمّا السرد فقد كان أكثر مباشرةً في معالجة الحرب من منظورٍ إبداعي، سواء أكان ذلك عن الحرب أم عن إفرازاتها وما أدَّت إليه.
تصوّر رواية (آخر أيام شاب جنوبي) لـ أمير صالح جبريل، آخر ثلاثة أيام من حياة شاب جنوبي نزح أبواه من الجنوب إلى العاصمة الخرطوم بسبب الحرب، وفيها صنعا الخمر البلدي وتاجرا به. ثم توفي أبوه لتعيله أمه التي أُدخلت السجن بسبب جريمة قتل حدثت في منزلها. ويكون مصير الطفل بعد ذلك التشرُّد والضياع، وامتهان السرقة، وإدمان الحشيش (البنقو) إلى أن يتم اغتياله في غرفته.
تعكس الرواية الحياة النمطية التي يعيشها الجنوبيون النازحون إلى الخرطوم أو معظم مدن الشمال: صناعة الخمر وبيعه، والفقر، والسكن العشوائي، والعنف الذي يؤدي إلى القتل، والسرقة، والتشرد، والتفكك الأسري وخلاف هذا الكثير:
«أخذ سندوتش الطعمية وهو يبتسم، صوت ديمس روزس مخلوط بالموسيقى يغني: إني أبحر.. إني أبحر. تأمله صاحب الكافتيريا وهو يجلس خلف درج البيع. هزَّ رأسه حتى كادت تسقط عمامته. ابتسم بسخرية فاهتزت كرشه داخل الجلباب الأبيض، وأخذ ينظر إلى هذا الزنجي النحيل وكيف يهز رأسه ذا الشعر المفلفل طرباً ويردِّد كلمات الأغنية الأجنبية بنشوةٍ. وهذه الزنجية المثيرة التي تلتصق به في غير حياء. يا لهما من جنوبيين غبيين(11)».
يختزل الكاتب في صاحب الكافتيريا الذي يهز رأسه سخرية ويمتعض من هذين الجنوبيين، صورة الآخر المختلف، الشمالي صاحب العمامة والجلباب الأبيض، وهو اللباس التقليدي لشماليي السودان وبعض القبائل الأخرى. إشارته للشَّعر (المفلفل) أي الخشن تحيل إلى النظرة العرقية، واستهجانه أن يطرب لكلمات أغنية أجنبية وهو الزنجي الغبي كما يتصوّره. هذه التَّصورات هي انعكاس للتصورات في ذهنية الشمالي تجاه الجنوبي بشكل عام.
هل الجنوبي يشعر بأنه مستباح ربما لذلك يتلبَّس العنف ردود أفعاله؟ مستباحٌ على المستوى الرسمي والمجتمعي، فالشعار المرفوع هنا «بيتك للكل، لأن الكل في بيتك، لأن الكلّ في الشارع والشارع من تراب»(12). والمقصود بـ «هنا» معسكر النازحين في الخرطوم. لكن الكل ليس فقط هم أفراد المعسكر، بل الكل الشامل، الدولة التي ترسل عرباتها في حملات منظمة لحشر أفراد ذاك المعسكر في عربات الشرطة زاجةً بهم في الزنازين، والمجتمع الرافض له، وحتى الطبيعة تستبيحه عندما تثور عليه وتقتلع مسكنه فيصنع الصغار سقفاً من مشمع لتغطية والدهما من المطر والرياح ويظل الصغار عرايا في مواجهة المطر والبرد والرياح. فقد صوّرت القاصة ستيلا قايتانو هذه الحياة البائسة ببراعة كبيرة في قصتها (كل شيء هنا يغلي.. نحو الموت والسجون).
ارتعاشات الأمل في وجدان الجنوبي تجعله يركض دوماً تجاه السلام، وتجاه العدل، يهرب من مصير قاتمٍ خلفه لمصيرٍ مجهول. فهو يغادر الجنوب والحرب في رحلة بحث يحف بها الحلم الوضيء: «مطارد أنت. لاهث في طلب النجاة. اركض فهذا قدرك. لا تجعل المسافة بينك وبينهم تضيق، فالبراحات دائماً مدخلها الركض13».
وارتعشات الحلم والطموح والتطلع للتغيير هي ما جعلت الياس، بطل رواية (طائر الشؤم) لفرانسيس دينق، يزحف نحو الشمال، تدفعه الرغبة في التعلُّم وتقلُّد مناصب تحقّق الفائدة لقومه وعشيرته وتكسبه احترامهم. هذه الرواية وجدت شهرة، لا بسبب أنها باهرة في فنيتها وتقنياتها الكتابية وعوالم التخييل فيها، بل لأنها عملت على تتبع فترة من تاريخ السودان خاصةً إبان حكم جعفر نميري (مايو/أيار 1969 - إبريل/نيسان 1985) وقبله حكم الفريق إبراهيم عبود (1958 - 1964).
نلمس في رحلة الياس الحياتية داخل الرواية، تقاطع العلاقة بين العربي والجنوبي في كلّ الفصول تقريباً، حتى في الفصول التي تتحدث عن البيئة في الجنوب وعن الطقوس والصلوات. إلا أنَّ ظلال هذه العلاقة جلية، وتبدو بعض الأحداث والمصائر نتيجةً لهذه العلاقة. هي علاقة شدّ وجذبٍ، كما لو أنّ فرانسيس دينق أراد أن يقول: لا فكاك. بل إنه اعتمد هذا المبدأ كحيلةٍ فنيةٍ في نهاية الرواية، خاصةً وهو يدين هذا العربي في كل الرواية وكل الأحداث، ثم يجعل من الياس عربيّ الأب وزنجيّ الأم. ومن بركة أخيه زنجيّ الدمّ من جانب الأم والأب. وبركة هو أخو حبيبته فضيلة، وأخوه في الوقت نفسه، هو الأخ الضائع! فقد بُنيت هذه الجزئية بشيءٍ من الركاكة وإقحام للمبدأ الذي افترضتُه، وهو مبدأ لا فكاك. فهل كان من الضروري أن يكون الياس عربيّ الدم من جهة الأب؟ هل خدم هذا النص والفكرة؟ أم هل انتصر للشمال على الجنوب، بتصوير الياس حلَّال العقد والمشاكل والحكيم والنبيل والصادق والمثالي؟ وفي الضفة الأخرى تجد بركة المسلم المتشدِّد المنحدر من أصول وثنية، المعتز بدمه العربي، وفي الأصل هو ليس كذلك!
وتكشف الرواية جانباً آخر، أن الجنوبيين أنفسهم يمارسون عنصرية على بعضهم، فالدينكاوي أنقى دماً وأعلى درجةً في السُّلم الاجتماعي من غيره من القبائل «لقد ولدتُ وترعرعتُ في قوم يعتبرون أن جنسهم وثقافتهم هي النموذج الإلهي لبني الإنسان وكذلك ينبغي أن تكون تقاليدهم الأخلاقية. إلا أن الفرق الوحيد هو أنهم لم يَمْلوا ذلك الرأي في أنفسهم وعن العالم على الآخرين. هم فقط يعتبرون أنفسهم خواص ومتفوقين، ولا يريدون أن يغيروا الآخرين ليكونوا مثلهم. إن الآخرين ليسوا بدينكا ولا يمكنهم أن يصيروا من الدينكا 14».
وربما هذه الصورة الذاتية هي سبب بعض المناوشات المسلحة التي تحدث من فترة وأخرى بين قبائل الجنوب. قياساً على هذه الصورة ما الفرق بين الدينكاوي في الجنوب والعربي في الشمال، إن كان كلّ واحد يرى أنه المتفوِّق؟ أليس من المحتمل أن تتسبب هذه الشوفينية بحربٍ أهلية أخرى في الجنوب بين القبائل الجنوبية ذاتها؟ وتبعاً لهذا السؤال نجد أن التعدُّد العرقي حتى في الجنوب يؤدي إلى نزاع مسلح بدلاً عن ثراء وغناء ثقافي واجتماعي.
لقد كُتبت رواية فرانسيس دينق هذه ومعظم كتابات الأدباء والمفكرين الجنوبيين باللغة الإنجليزية، ومنهم: أغنيس لاكودو، وتعبان ليو لينق، وجونثان ميانق، وفرانسيس فيلب وأبيل ألير وغيرهم. نحن نعرف أن الإنسان يستطيع التعبير في لغته الأمّ بشكل أفضل، فهل اعتبر الجنوبيون اللغة الإنجليزية هي لغتهم الأم؟ ألم يساهم ذلك في توسيع الهوَّة القائمة أصلاً بين الثقافتين الشمالية العربية والجنوبية الإفريقية؟ ولا شكَّ أن هذه الكتب لم تجد انتشاراً كافياً لدى القارئ الشمالي بسبب ذلك. ثمة عدد قليل من الكتاب الجنوبيين كتبوا بالعربية وأجادوا مثل ستيلا قايتانو وآرثر قابريال ياك.
الثقافة والإبداع ينهلان من التعدُّد والاختلاف والتمايز، لكن السياسة تخشى التعدُّد والاختلاف والرأي المضاد. حاولت الثقافة والإبداع الكتابي والفني سواء أكان مسرحاً ودراما، أم غناءً وموسيقى أم تشكيلاً، رتق تصدُّع الوطن وجراحاته بسبب الحروب التي افتعلتها السياسة وغذّتها، لكن ظلَّ كل من الشمال والجنوب يحمل مآخذه على الطرف الآخر وينميها. كلّ طرف يرى أنه المحق، والنازف هو الوطن: «إني أتساءل مع أيِّ الجانبين يقف الله 15»، مع أي الطرفين هو الحقُّ؟ ويبقى الخاسر هو الوطن.
هوامش:
-1 الحرب الأهلية وفرص السلام في السودان، إبراهيم علي إبراهيم المحامي، ط1 القاهرة 2002، ص 176.
-2 نفسه، ص 177.
-3 نفسه، ص 176.
-4 نفسه، ص 17.
-5 نفسه، ص 17.
-6 طائر الشؤم- رواية، د. فرانسيس دينق، ترجمة: د.عبد الله أحمد النعيم، 2001، مركز الدراسات السودانية.
-7 انظر كتاب جنوب السودان.. التمادي في نقض المواثيق والعهود، أبيل ألير، ترجمة: بشير محمد سعيد، ط1 1992م.
-8 صحو الكلمات المنسية- شعر، النور عثمان أبكر، ط2 الخرطوم 1994، ص 33 .
-9 العودة إلى سنار - شعر، محمد عبد الحي، ط2 الخرطوم 1985، ص 10.
-10 أغاني إفريقيا شعر، محمد مفتاح الفيتوري 1955، ص 38.
-11 آخر أيام شاب جنوبي - رواية، أمير صالح جبريل ط1 الخرطوم 2010، ص 16.
-12 زهور ذابلة - قصص، ستيلا قايتانو ط1 الخرطوم 2005، ص 10.
-13 السابق، ص 31.
-14 طائر الشؤم- رواية، د. فرانسيس دينق، ترجمة: د.عبد الله أحمد النعيم، 2001، ص229 مركز الدارسات السودانية.
-15 نفسه ص291.
بحيرة بحجم ثمرة الباباي
كل شيءٍ فيها كان يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع .. طولها الفارع ، ووقفتها المستقيمة رغم شيخوختها .
لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:
- يكفي أنني اتنفس به ..
كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..
الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :
يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها
ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :
- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .
و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .
كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..
كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :
نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟
رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :
أسرعي أريد أن أرضع.
قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.
لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟
عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :
- أتعلمين قصة موت جدك؟
- لا ياجدتي
رغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .
لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .
فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..
ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .
كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.
ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..
كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :
- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟
في الحلم؟
- لا .. بل في الواقع ..
و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟
- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .
وكيف عرفتِ أنه جدي؟
- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط
عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..
و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟
لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .
و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح
لا ألمس في جدتي أي جماليات ، كنت أراها قبيحة جداً مثل الغوريلا ، شفتاها غليظتان ، رأسها كبير يصلح للجلوس دون أي متاعب .. كان يزين شفتها السفلى ثقب هائل تسده بقطعةٍ من الخشب نحتتها لتكون صالحة لهذا الغرض . عندما تخرج تلك القطعة فإن لعابها يسيل عبره . أشهر شيءٍ قبيحٍ فيها أنفها الأفطس ، عندما تسمع تعليقاً عن فطاسة أنفها كانت تقول دون أيّ جهدٍ في التفكير:
- يكفي أنني اتنفس به ..
كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل أيضاً .. الذي أخذ مساحةً كبيرةً من حلمة الأذن ، و هناك أيضاً ثقبَ في أنفها الأفطس ثم تبرز مساحةَ كبيرةَ من لثتها في الفك الأسفل نتيجة لقلع أربعة أسنان .. أما عيناها فكانتا حمراوتان تجثم فوقهما جفونَ منتفخة ..
الشيء الذي عرفته عن جدتي أن لها مقدرة فائقة في تحمل الألم .. ذات يومٍ ذهبت تقضي حاجتها في العراء ، عندما عادت تحك كعبها الذي أخذ يتورم شيئاً فشيئاً دون أن يبدو عليها الألم ، سألتها في براءةٍ عما بها فقالت :
يبدو أن أفعى لدغتني ، ثم أخذت مشرطاً وفصدت اللدغة كانها تفصد شخصاً آخر أو كان المشرط يصنع أخاديده المؤلمة في جسم غير جسمها
ازددت اضطراباً و انا أرى دماً أسود يخرج من تلك الأخاديد .. ليصنع بركةً سوداء .. بركة بلون سمّ ودم ، ثم أخذت ترياقاً مثل حجرٍ أبيض اللون و سحقته بقسوة.. ثم أخذت تملأ تلك الأخاديد بالحجارة الصغيرة ذات الأثر الحارق في الجروح .. حدث كل ذلك و أنا أبحث عن أثرٍ للألم بين خلجاتها .. فجأة نظرت إليّ .. كنت منكمشةً فازددت انكماشاً .. خفت .. أردت الهرب .. و أنا أتذرع بأعذارٍ واهية لأنهض من قربها لأني أعرف عادتها ، إذا أخذت دواء .. أياً كان نوعه فإنها كانت ترغمني على أخذه خوفاً من انتقال العدوى إليّ ، فشلت في الهرب لأنها كانت قد أطبقت قبضتها الفولاذية على معصمي .. و بالمشرط صنعت خطين على ظهر يدي و كذا على قدمي ، لم تعطني حتى فرصةً للصراخ ، أحسست بألمٍ يتسلل عبر دمي ثم قطرات من الدم تنساب عبر الفتحات الثماني .. أخذت الترياق و دعكته بنفس القسوة .. كأنها تريد إدخال تلك القطع الصغيرة عبر أوردتي ، و قالت راطنة وهي تمارس قسوتها عليّ بصوتها الذي بالكاد يشبه صوت النساء :
- هكذا حتى لا تجرؤ تلك الحبائل المتحركة على لدغك .. إذا رأتك إحداها فإنها لا تقوى على الحراك حتى تذهبي مبتعدة .
و هذا ما يحدث دائماً عندما أكون و حدي أو معها .. و منذ ذلك اليوم لم تلدغ أفعى أياً منا رغم أنها كانت تتحرك في كل مكان، حتى في فناء بيتنا الواسع المليئ بالأشجار و الخضروات و شجرة الباباي ذات الأثداء الكثر و الكبيرة .
كانت غرفتنا من القش ذات جدارٍ دائري وبابٍ قصير بحيث يركع من أراد الدخول فيها على ركبتيه ، و عندما تدخل تلاقيك ثلاثة مدرجات لتنزل إلي عمق الغرفة فترى سقفاً مخروطياً بعيداً ، فتصعب عليك المقارنة بين خارج وداخل الغرفة .. وهناك في نهاية البيت حظيرة تضم أكثر من ثلاثين بقرة ، فتزدحم في فتحتي أنفك روائح الروث و الفواكه والخضروات .. ورائحة جدتي ..
كنا أنا وهي ، في كل هذا الصخب ، عائلةَ تتكون من جدة وحفيدة .. توفيت أمي و هي تلدني .. وتوفى أبي في رحلةِ صيدٍ عندما سحقته جاموسةَ هائجةَ بقرونها ، أما جدي فقد أعدم عندما قتل أحد الإنجليز ممزقاً نحره بالرمح لأن نظرات الإنجليزي لم ترق له .. بقيت مع جدتي منذ عمر يوم ، أرضعتني حتى العاشرة من عمري .. كان ثدياها مثل ثمرة الباباي في الضخامة و ما تحوي من لبنٍ طازجٍ ذي طعمٍ غير مفهوم و لكنه جميل ، كنت أرضع قبل الذهاب بالأبقار إلي المرعى ، و بعد أن أعود فلا أشتاق إلا لثمرة الباباي الموجودة على صدر جدتي .. كنت حينها في الثامنة من عمري ، حضرت ذات يومٍ و لم أجدها في البيت .. أدخلت الأبقار في الحظيرة و أنا أناديها مراتٍ و لكن لم تجب .. أعماني إدماني عن رؤية أي شيئ و ناديتها بأعلى صوتي فردت عليّ من بيت جارتنا التي كان يفصل بيننا وبينها جدارَ من البوص و الأخشاب :
نعم .. هل حضرتِ يا ابنتي؟
رأتني في حالةٍ عصبيةٍ و الدموع واقفةَ على جفوني و أنا أقول لها في صوتٍ مخنوقٍ بالعبرة و الغضب :
أسرعي أريد أن أرضع.
قلتها في صوتٍ حازمٍ و في غيظ ، فتأتي و تجلس على الحصير ، أتناول ثديها في نهمٍ و لهفةٍ غريبين ، متجاهلة تعليق جارتنا و هي تضحك علينا و تؤنب جدتي على كيفية نهمي على الرضاعة و أنا في هذا العمر المتأخر.
لم تكن جدتي ترتدي أي شيئٍ سوى جزءٍ ضئيلٍ من الجلد مكون من قطعتين ، معلق بحبل جلدي لفته تحت السرة يتدلى من الأمام و من الخلف ساتراً عورتيها ، أنا حتى ذلك العمر كنت أتساءل لم تضع جدتي تلك الفروة في هذه المواضع .. لم لا تكون مثلي؟
عندما بلغت العاشرة من عمري حدثت تغيرات أثرت على مجرى حياتي ، صنعت لي جدتي شريحتين من الجلد لأغطي المواضع التي تسترها هي .. و منعتني من الرضاعة .. كانت أياماً صعبة ، كنت لا أنام الليل أشعر بلهفةٍ عارمة لأرضع كما أشعر بنفس الرغبة لأتعرى ، عشت أساماً لأتخلص من هذه المشاعر المخجلة ، كنت أعود إليها كلما سنحت لي فرصة ، مثلاً عندما تسكر جدتي بذلك الخمر البلدي مع صديقاتها العجائز ، كانت لا تدري من الدنيا شيئاً و لكنها كانت تتعبني جداً ، خاصة بعد ذهاب صديقاتها من بعد صخب من الرقص والغناء الفاتر ، كانت تتكلم مع الموتى ، مثلاً كانت تقول لأمي : أنتِ يا ربيكا يا ابنتي .. لولا خوفك من الولادة و ربطك للولادة بالموت لما مت .. و أنت يا ماريو فقد قتلك التحدي رغم خوفك ، أما أنت يا زوجي العزيز فقد قتلك جهلك ، ثم تلتفت إليّ قائلة و قد التوى لسانها في الحديث و عيونها أكثر احمراراً و جفونها متورمة لدرجة الانفجار ، وهي تحرك تلك القطعة الخشبية التي أصبحت جزءاً من شفتها المترهلة أكثر مما ينبغي بلسانها المتحرك في قلق :
- أتعلمين قصة موت جدك؟
- لا ياجدتي
رغم أنني كنت أعرف القصة و أحفظها عن ظهر قلب ، إلا أن ردي لا يعني لها شيئاً سواء كان بلا أو نعم ، لأنها كانت ستسردها في الحالتين .. ثقل لسانها و أخذت الكلمات تخرج ملتويةً و مقطوعة ، كنت أسمعها كأنها محشورة في قلةِ كبيرة فيخرج صوتها بعيداً .. قوياً .. ومشوشاً .
لقد قتل جدك أحد الإنجليز في زمن الاستعمار فحكمت عليه المحكمة بالاعدام و هو لا يدري ذلك ، كُتب الحكم في ورقة .. و كان عليه أن يقطع مسافة كبيرة لتنفيذ الحكم في مكانِ آخر .. كان جدك الغبي سعيداً لأن الانجليز أعطوه ورقة و قالوا له إذهب سوف يلقاك أناس هناك .. أعطهم هذه الورقة .. حمل الرسالة وقد حشرها بين شقي عودِ من البوص حتى لا تتسخ .
فصنع لنفسه رايةً صغيرة وهو لا يدري أنها راية موته ، و عندما وصل .. نُفذ الحكم فمات و الدهشة مرتسمة على و جهه الغبيَ ..
ثم تضحك في هستيريا و تعيد القصة مرة أخرى بعد السؤال ذاته ، و بعد دهر من الكلمات و الجمل الملتوية .. ثم تباعد بين الجمل .. و تباعد بين الكلمات .. يليه تباعد بين الحروف .. ثم صمت و انفاس ثقيلة و شخير مزعج يضج في انحاء بيتنا الواسع بعد أن تبكي على موتاها بنفس هستيريا ضحكها حتى تنحدر الدموع على صدرها .
كنت أفرح ويرقص قلبي طرباً ، لأني سأمارس أشيائي التي حرمت منها دون أن اواجه عيوناً حمراء أو صوتاً رجالياً يأمرني بالابتعاد .. أنزع ذلك الغطاء الجلدي الساخن و ألقيه في أبعد مكان ، أقترب من جدتي التي نامت ملقاة أطرافها في كل مكان .. حتى الشريحتان لا تفلحان في تغطية شيئ من جسمها الضخم الممدد على أرضية غرفتنا العميقة .. أتناول ثديها و أشرع في ممارسة رضاعتي في نهم محموم ، عندما امس حلمتها للوهلة الأولى أتذوق طعماً مالحاً ، طعم دموعها .. رغم قبحها لم اكن أتقزز منها فأنا احبها ، أستمر في تلك الحالة و أنا أسمع صوت الرعد بالخارج و أمطاراً غزيرة تضرب السقف المصنوع من القش في إصرارٍ ثائر ، أتجاهل كل هذا الصخب .. صخب الطبيعة المفاجئة ، لأعيش عالمي ، عالم يتكون من بحيرة في حجم ثمرة الباباي ، بحيرة غزتها الشيخوخة فنضبت و ترهلت حتى وصلت السرة.
ذات يوم و أنا أسير خلفها في طريقنا لجلب الماء من النهر ، و نحن نتخذ شريطاً من الطريق الذي صنعته أقدام البشر بين الحشائش التي تغطي نصفنا الأسفل ، بلغت حينها الخامسة عشر من عمري ، كانت تضع قلةً كبيرةً سوداء على رأسها ممسكة بها بيدها اليسرى فيظهر شعر ابطها الأحمر الذي احترق بالعرق ، و أنا ارى الأفق عبر ثقب أذنها ، و أعد خطوط الشيخوخة التي أصبحت واضحة في مشيتها السريعة المتعثرة ، و ترهل بطنها و ثدييها الذان عندما يصطدمان بالبطن يصدران صوتاً كالتصفيق في حالتي المشي و الرقص ..
كانت كغير عادتها هائمة صامتة ، كنت أحاول اللحاق بها بين حين و آخر بهرولة خفيفة ، فجأة توقفت لأنَ هناك أفعى ملونة ترفرف حولها فراشاتَ تحمل ذات الألوان الطفيفة ، اندهشت لذلك و قلت مازحة : منذ متى تقف جدتي لرؤيتها أفعى؟ قالت بعد أن تنهدت بعمقٍ ولأول مرة ألمح خوفاً مخلوطاً بالحزن قد جثم على أخاديد و جهها الكثيرة و العميقة ، قالت: هذه الأفعى نذير شؤم .. تابعنا سيرنا دون أن نتحدث ، قالت جدتي بعد أن فقدتُ الأمل في أن تتحدث :
- أتعلمين أني رأيت جدك قبل أيام؟
في الحلم؟
- لا .. بل في الواقع ..
و لكن ياجدتي .. جدي قد مات كيف ترينه مرة أخرى؟
- رأيته في صورة تمساح .. ضحكتُ و لكنني سرعان ما صمتّ عندما رأيت الجدية على وجهها .
وكيف عرفتِ أنه جدي؟
- من تلك العرجة التي كان مشهوراً بها و صفات أخرى أعرفها أنا فقط
عرفت أننا لا نموت بل نتحول إلي أشياء أخرى تحمل الصفات التي كنا عليها ، نتحول و لكن دون ذاكرة فجدك لا يذكرني عندما تحول إلي تمساح ..
و ماذا تريد أن تكون جدتي بعد عمر طويل؟
لا أدري إلي ماذا سأتحول ، و لكني أتمنى أن أتحول إلي نسر .
و منذ ان ماتت جدتي و علاقتي بالنسور قوية ، كلما ألمح واحداً أتأمله في تحليقه عسى أن أجد بعض صفات جدتي ، ثدياً بحجم ثمرة الباباي .. عيوناً حمراء .. جفوناً منتفخة .. أو لبناً بطعم الملح
وطن الكتروني
بعد ان تحول
الوطن من خرم ابرة لا يسع سوى اناس بعينهم الى سن ابرة يوخز كل من يقترب
منه او من مشاكله وخزة الم لا تنسى في اكثر الامكنة حساسية، وما بين خرم
الابرة وسنة الابرة مشاوير يقطعها الشباب يوميا، تخش خرم الابرة تنجم حبة
ثم تخرج لتأخذ وخزة ثم نطة.
وما بين
الالم والنطة والضيق هرب جيل اليوم الى عوالم اخرى ليس فيها حدود جغرافية
كي ترسم ولا ثروة كي تقسم مع اصطحاب ان الكثيرين منهم لديهم احساس قاطع بان
ما يحدث اليوم في السودان ليس لهم يد فيه ولكن بطريقة مباشرة او غير
مباشرة تقع العقوبات فوق روؤسهم ، لذا هربوا الى عالم الفيس بوك .
حتى
وقت قريب لم يكن لي اي ارتباط بعوالم الفيس بوك لاني اقول : ما دام الواحد
ما قادر يلاقي الناس اخير من الشحتفة بعد ان ورطنا الوطن في ماريثون
المعيشة دون تحديد الكليومترات التي يجب ان نجتازها، ولا حتى تحديد من
سيكون الفائز في النهاية، اذا كانت هناك نهاية، على ما اظن الفائز هو الذي
يموت من الجري من غير اي فرفرة.
اي واحد تسألو وين ياخ مختفي ؟ يقول
ليك والله جري بس ، وادخلنا في طاحونة المعيشة التي تجعجع دون طحين وعندما
تجرد حسابك اخر الشهر عن ماذا فعلت تجد انك لم تخرج عن ثلاثة نتائج شفافة
ونزيهة اكل كعب، نوم بتعب، شغل صعب.
الى
ان ورطتتني صديقة في هذا الامر ومن ثم عينك ما تشوف الا النور كمية من
الاصدقاء والصديقات من الكلية وغيرها يطلبون الصداقة كل يوم اجد اكثر من
خمسين طلب صداقة اناس اعرفهم واخرون اعرفهم نص نص واخرون احتاج الى التذكر
حتى يركو لي وايييييييك .
فقلت لصديقتي التي ورطتني : دا الكنت
خايفة منو هسي الناس ديل اعمل ليهم شنو لو قبلتهم ما حاقدر اتواصل معاهم،
قالت لي اتجاهلي وحدين، قلت كيف تتجاهلي زول قال داير يصاحبك؟
ومسكت
الجماعة اصحبك اصحبك وبالذات مع موضوع الانفصال دا بقيت كأني شغالة بنظرية
الحشاش يملأ شبكتو، وبنهم تحصلت على اصحابي واصحاب اصحابي واصحاب اصحاب
اصحابي وكل يوم كنت اقول في سري : ينصر دين الخواجات ! كأنهم كانو عارفين
بحكاية الانفصال دي بالله شوف دي عليك الله ما هدية من ربنا للشباب
السوداني المتورط في العقوبات التاريخية الما ليهو ذنب فيها اتخيلو انو كان
مافي تلفون ومافي انترنت ومافي فيس بوك كان الوضع حيكون عامل كيف؟ نحي
التكنولوجيا التي ستمسح كلمة الوداع من قاموس العلاقات الانسانية بتجاوزها
للزمان والمكان والاحداث. يعني الناس البخصوك ممكن تتكلم معاهم وتتونس
وتقطع وتقيل معاهم عديل وتتابع اخبارهم على رأس كله دقيقة وتشوفهم وتفرح
معاهم وتحزن معاههم وكل شي تاني اكتر من كدا داير شنو عشان يكون معاك بعضمو
ولحمو الا كان داير تأكلو ؟!!
في
تلاتة قعدات في المدعو فيس بوك عملت خمسين صاحب كما قالت صديقتي لانهم اصلا
ناسي من زمان بس فرقتنا الايام وافاعيل القدر ومجرد ما اقعد في الكمبيوتر
اكون شغالة حي يا فلان وكليك في كلمة ( كونفيرم) يعني خلاص قبلتك صاحب
وكمية من الكونفيرمات دي لقيتم ايييييك شعب كامل من الاصحاب البتحبهم
والبحبوك كدا ساكت لله في لله ، بيناتكم قواسم مشتركة من الاصحاب والاحباب
والميول والاهتمامات اخر الامر قلت لنفسي : الله يجازيك يا استيلا بتعرفي
الناس ديل كلهم .. ولسه هناك الكثير في الانتظار هذا (الكونفيرم) واكيد
بتعريفيهم ، كيف لم اجري تعدادا لاصدقائي من قبل؟ اذا لم يسطتع وطن بمليون
ميل مربع ان يسع كل هؤلاء ، كيف لقلبك الواجف من الفقد ؟ تستاهلين خمسين
جلدة في ميدان عام انت واصدقائك بتهمة اللمة الفاضحة على اعتاب فرقة
الاوطان وانتم تفتحون بيوت للصداقة في غرف القلب الاربعة بعيدا عن اعين عسس
العنصرية ومتوهمي نقاء الهوية الذين يجيدون النعيق في الديار الخالية .
هنيئا
لكم وطنكم الالكتروني وانتم تثبتون لهم ان لاحدود بين الانسان وانسان كي
ترسم وان الوطن الالكتروني يخفف علينا فواجع وطن من تراب وماء وشجر يذوب
مثل البسكويت بحجة فشل جعل وطن بمليون ميل مربع جاذبا واطول انهار العالم
لا يجد كل من يركع فوقه وجهه معكوسا فيه، ويشكك فيه او ترتاب في وجود وجهك،
اما انه لا يصلح كمرآة او ان ليس لك وجه من اساسه
Subscribe to:
Posts (Atom)